انفجار مرفأ بيروت؛ ما سر عراقيل التحقيق فيه؟
منذ شهرين
ملف- سياسة+
بعد عراقيل متكرّرة طيلة أكثر من عامين، اصطدم التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الأسبوع الحالي بمواجهة غير مسبوقة داخل الجسم القضائي تعكس حجم الضغوط السياسية التي لطالما أخّرت مسار العدالة منذ كارثة صيف 2020. فما العراقيل التي يواجهها التحقيق منذ انطلاقه حتى الآن؟ وما هي تداعيات الحرب القضائية المفتوحة؟
ما العراقيل التي واجهها التحقيق؟
منذ وقوعه في الرابع من آب (أغسطس) 2020، عزت السلطات الانفجار إلى حريق لم تتّضح أسبابه في العنبر رقم 12 حيث تم تخزين 2750 طناً من نيترات الأمونيوم منذ العام 2014. وتبيّن لاحقاً، وفق وثائق رسمية، أنّ مسؤولين سياسيين بارزين وقادة أجهزة أمنية وقضاة كانوا على علم بمخاطر تخزين هذه المادّة من دون أن يحركوا ساكناً. وشكّل الادّعاء على مسؤولين سياسيين وأمنيين محطة حاسمة في مسار التحقيق، سرعان ما أدخله في متاهات السياسة.
وانتهى ادعاء المحقّق السابق فادي صوان على رئيس الحكومة السابق حسان دياب، وثلاثة وزراء سابقين بتنحيته وتعيين القاضي طارق بيطار خلفاً له. وسلك قاضي التحقيق الجديد الطريق ذاته الذي سلكه سلفه، ليواجه عراقيل أكبر:
– امتنع البرلمان السابق عن رفع الحصانة عن نواب شغلوا مناصب وزارية.
– رفضت وزارة الداخلية منحه إذناً لاستجواب قادة أمنيين ورفضت قوى الأمن تنفيذ مذكرات توقيف أصدرها.
– بلغت موجة الاعتراض أوجّها بعدما قاد “حزب الله”، القوة السياسية والعسكرية الأبرز في لبنان، حملة للمطالبة بتنحي بيطار، متهماً إياه بـ”التسييس” والاستنسابية” والرضوخ لإملاءات أميركية.
ويتساءل كثر عن سبب قيادة حزب الله لهذه الحملة، رغم أن الادعاءات الصادرة لم تطل أياً من مسؤوليه. لكنّ مراقبين يربطون بين حملة حزب الله ضدّ بيطار، وتقارير تفيد باستخدام التنظيم المسلّح المرفأ لتمرير بضائع لصالحه ولصالح مقرّبين منه. ويتداول البعض سيناريوهات حول “عمل تخريبي” أو “قصف إسرائيلي” طال “حزب الله” الذي نفى حينها أي وجود له في المرفأ. ومع تحدّيه الضغوط السياسية، اصطدم بيطار سريعاً بدعاوى تتالت كأحجار الدومينو، تجاوز عددها الأربعين وقادت الى تعليق التحقيق في آواخر 2022.
ويقول رئيس حزب الكتائب والنائب المعارض لـ”حزب الله” سامي الجميل في حديث لجهات إعلامية إنّ “الطبقة السياسية وحزب الله أقوى من العدالة”. ويضيف “هناك بالتأكيد معركة سياسية، لأنّ قضاة كثراً هم تحت سطوة السياسيين الذين فعلوا كل شيء من أجل عرقلة” بيطار.
لماذا استأنف المحقق العدلي تحقيقاته؟
في 23 كانون الثاني (يناير)، فاجأ بيطار اللبنانيين بإعلانه استئناف التحقيق، مستنداً إلى مطالعة قانونية تفيد بعدم وجود نص قانوني يتيح كف يد المحقق العدلي عن عمله، وتتيح له الإدعاء على جميع الأشخاص من دون طلب إذن من أي جهة. لكن ليس واضحاً حتى الآن دلالات اختيار بيطار لهذا التوقيت. وقال أحد الأشخاص المقربين منه “إنه مصرّ منذ البداية على عدم التنازل عن التحقيق، يريد أن يصدر القرار الظني ضارباً بعرض الحائط كل الضغوط التي تلاحقه”. وأضاف “قد يكون الأمر مجرّد التزام شخصي منه ببلوغ العدالة، خصوصاً أنه قاضٍ معروف بنزاهته واستقلاليته”. وذكر أحد أصدقاء بيطار “أنه يعمل وحيداً انطلاقاً من قناعته بضرورة محاسبة المسؤولين وإكمال مهمته”.
لكنّ مصادر أخرى ربطت استئناف تحقيقاته بتحرّكات خارجية، خصوصاً أنّ قرار بيطار أعقب لقاءه لساعات طويلة في مكتبه ثم في منزله، وفداً قضائياً فرنسياً زار لبنان الأسبوع الماضي للاستفسار عن معلومات طلبها في إطار تحقيق تجريه باريس بشأن مقتل وإصابة فرنسيين في الانفجار. ولفت مسؤول أمني بارز إلى أن الوفد الفرنسي “قدّم لبيطار مخرجاً يقضي بالاستعانة بمعاهدات دولية للإفراج عن الموقوفين، كونهم لم يخضعوا للمحاكمة طيلة عامين، في انتهاك لحقوق الإنسان”. لكنّ الضغط الأكبر على القضاء اللبناني جاء من واشنطن التي أبلغت رئيس جهاز أمني، عن تحرّك لوبي أميركي لفرض عقوبات على بيطار والنائب العام التمييزي غسان عويدات، ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود لاخلاء سبيل الموقوفين، بينهم اللبناني الأميركي زياد العوف الذي شغل منصب رئيس مصلحة الأمن والسلامة في المرفأ. لكنّ بيطار رفض المضيّ في إطلاق سراح جميع الموقوفين، كما رفض التنحّي عن القضية لتعيين قاض رديف. وبعد ساعات فقط من إطلاق سراح الموقوفين، غادر العوف سريعاً إلى واشنطن، رغم وجود قرار منع سفر بحقه، ما يعزّز الشكوك عن دور أميركي.
ما التداعيات المحتملة؟
مهّدت قرارات بيطار الأخيرة لناحية استئناف التحقيق والادعاء على أشخاص جدد، بينهم النائب العام التمييزي غسان عويدات، الطريق أمام مواجهة غير مسبوقة في تاريخ القضاء اللبناني. وسارع عويدات إلى الادعاء على بيطار ورفض كافة قراراته، وأخلى سبيل جميع الموقوفين.
وتهدّد هذه المواجهة القضائية التي لم تتضح تداعياتها بعد بانحلال كامل للمؤسسات، في بلد ينهشه انهيار اقتصادي وانقسام سياسي حاد يعرقل اتخاذ القرارات، من أصغرها وصولاً إلى انتخاب رئيس للبلاد.
ويقول وزير العدل السابق إبراهيم نجار إنّ ما يجري على الساحة القضائية اليوم “خطير جداً وغير مسبوق”. ووصفت عائلات الضحايا ما جرى بـ”انقلاب” على القانون، محمّلة “القوى الأمنية مسؤولية أمن القاضي بيطار” ومضمون التحقيق.
وفي مؤشر على حجم الانقسام القضائي، فشل مجلس القضاء الأعلى في الالتئام الخميس، بعدما أطاح بند إقالة بيطار بالاجتماع، وفق ما أفاد مسؤول قضائي. ويرى نجار أنه في حال تعيين بديل لبيطار، ثمة خشية من أن “يبدأ التحقيق من نقطة الصفر”.
ويعتبر الخبير القانوني بول مرقص أنّ “مستقبل المسار القضائي لملف المرفأ محفوف بالمخاطر، وثمة علامات استفهام كبرى تحوم حوله وما إذا كان سيفضي الى العدالة أم لا”.